بحث معمق: العالم يرقص على الطبل الروسي
27/03/2022 12:48:46

مخائيل عوض

الحرب الأوكرانية والولادة من الخاصرة.

هل تكون الحرب الأوكرانية طلقة المخاض الأخيرة لولادة عالم جديد؟

شهدت الحياة البشرية والإنسانية تطورات متعاظمة في القرن العشرين وزادت معدلاتها الانفجارية في العقدين المنصرمين من القرن الجاري.

فالثورة التقنية الرابعة وتفاعل العالم الافتراضي بالعالم الواقعي أحدثت تغيرات جوهرية في أنماط الاقتصاد والإنتاج ووسائله وآليات التوزيع، وقررت خلخلة وإسقاط القواعد والنظم التي أرستها حقبة الرأسمالية التي تشرعنت في معاهدة وستفاليا 1648 التي أنهت الحروب الدينية في أوروبا وفصلت الدين عن السياسة والدولة، وعتقت الرأسمالية البازغة من عقال الاقطاعية والبطريركية. فالثورة التقنية الرابعة ومنتجات البشر العصرية، كسرت إلى الأبد قيم الجغرافية السياسية والسيادات وأنماط تشكيل الهويات وقواعد التعامل بين الأمم والقارات، وأنهت تحكم النخب الحاكمة والطبقات المسيطرة على وسائل السيطرة والسطوة والقوة، وحّولت ملكيتها إلى مشاعِ عام لا تحده جغرافية أو طبقات أو إجراءت سيادية، ولن تكون لأجهزة القمع فرصة القبض على سريان المعلومات والتفاعلات الإنسانية الجارية، وستتعاظم في مسارب وسائط التواصل وتدفق المعلومات ومع الجيل الخامس للأنترنت، فصار العالم أصغر من ثقب إبرة، وغدا التاريخ مفرطاً والانفوسفير هو الواقع المتخيل والمعاش معاً. وكسيولة وفيضان تدفق المعلومات كذلك سيولة ويسر تدفق الأموال عبر التواصلية وإنتاج العملات الرقمية والمشفرة، وما تفرضه من وسائل دفع وتحصيل إلكترونية ورقمية.

الرأسمالية التي ورثت تشكيلة الإقطاع في سلم تطور البنى الاقتصادية الاجتماعية وصياغة القيم والثقافات والحاجات الإنسانية الروحية والمادية، أخذت كل وقتها وجل ظروفها وتطورت وارتقت وسادت وعممت نموذجها في أركان الكرة الأرضية حتى النائية منها، وضربتها بفيروساتها وابتلاءاتها، وكما سادت أفقياً تطورت وارتقت عامودياً واختبرت كل فرصها، وصححت اختلالاتها واحتوت أزماتها العابرة والبنيوية، وأنتجت كل ما في جعبتها من جديد لترميم نفسها، ومعالجة أزماتها وطال بها الزمن لأربعة قرون فبلغت الشيخوخة ودخلت مرحلة الغيبوبة تحت اجهزة التنفس الاصطناعي.

وقبلها ومعها اختبر البشر كل ما أنتجته تجاربهم وخلاصاتها في العصر الأول للحضارة الإنسانية الذي أطلقته معاهدة قادش 1374 ق.م، كأول مضبطة صلح مكتوبة بين الممالك على أثر معركة قادش الثانية بين الحثيين والفراعنة في غرب نهر العاصي – حمص، المعروفة اليوم بمنطقة القصير، وسادت مبادئها وقوانينها حتى وستفاليا.ولأن البشر متلبدون ويميلون إلى السكينة وعدم التغير ويمانعون التفاعل مع جديد منتجات التقانة والعصرية وتخلفوا كثيراً عن ركب موجة التطوير، ابتدعت الطبيعة لنفسها وسائط عقاب وتصويب وثأر من البشر الذين استسهلوا التطاول والاعتداء عليها، فاعتادت أن تبليهم بالفيروسات والأمراض والجوائح والتغيرات المناخية، وقررت من تلقاء نفسها وأو بفعل الإنسان الإبن غير البار للطبيعة أن تطلق فيروس كورونا، الذي بدوره وبحافزية اختلاجات نبض الرأسمالية في غيبوبتها تحول إلى جائحة أطلقت مفاعيل الحاجات المادية لإعادة هيكلة أنماط الحياة البشرية، وغيّرت في توازنات القطاعات الاقتصادية وأولوياتها، وأسهمت في تسريع نقل عتلة القيادة والتطوير من أوروبا والغرب إلى الشرق وآسيا بعد أن استقرت على أثر وستفاليا في أوروبا الغربية، التي انتجت أخطر ما في جعبتها بعد غزو العالم الجديد، فولدت نظام العسف والإبادة والتدمير والحروب، وتجسدت خلاصتها وروحها المتعجرفة بتشكيل الولايات المتحدة الأميركية بنظامها اللا إنساني واللا طبيعي وغير المعادل للحاجات التي خلقت من أجلها الأرض والإنسان، ليتفاعلا ويتعايشها بإبداع  وتعظيم البشر وتأمين حاجاتهم الروحية والمادية وتعاظمها.

فصار المولود المسخ الخارج عن الأطوار والمؤسس على قياس ونظام الشركات ولتأمين حاجاتها وزيادة ربحيتها مهيمناً عالمياً، بعد سقوط اختبارات قيام نظم وتشكيلات اجتماعية وسيطة بما سمي بالاشتراكية الروسية التي عممت تحت مسمى الاتحاد السوفياتي ومنظومة الكوميكون، وبتجربة عدم الانحياز وحلف وارسو، ولأنها تجربة هجين لم تتخطى قواعد وقوانين وتشكيلة الرأسمالية، واستنسختها بنسخة روسية آسيوية لم تكن ظروفها ناضجة للاشتراكية التي صممها ماركس وأنجلز لبريطانيا وألمانيا اللتين أكملتا التحول إلى الرأسمالية. سقطت اشتراكية موسكو، التي لم تكن سوى رأسمالية الدولة الاحتكارية، فانتفت وظيفتها وأفلس نموذجها بقوة الدفع الذاتي عندما تكلست قيادة التجربة السوفياتية، وارتبكت على مفرق التطوير والإبداع، فانهارت التجربة لتطلق العنان لهيمنة كلية عدوانية لليبرالية الأميركية بتوحشها وعنجهيتها.

هكذا استوجبت التطورات والإبداعات والاكتشافات العصرية والتحول إلى الرقمية وسيطرة التواصلية والجو تواصلية، لتفرض الحاجات الماسة للانتقال من العصر الثاني للحضارة الإنسانية إلى العصر الثالث  الجاري توليده، وكل ولادة تتعسر وتفرض مخاضاً قاسياً مؤلماً، وإذا طال ولم تقع ولادة طبيعية فالحاجة تصبح أكثر إلحاحية لولادة قيصرية من الخاصرة، وأيسر الخواصر لتوليد العالم الجديد تقع في أوروبا على فالق الزلازل البشرية، ومع روسيا التي منحتها الطبيعة والقدر مهمة إسقاط وتدمير الامبراطوريات لتأمين العبور إلى الحقب التالية.

هكذا تفهم الحرب الأوكرانية في توقيتها وبيئتها وحدودها وزمنها على أنها حاجة تاريخية واجبة الانجاز، كتتويج لمخاض عسير وكآخر معارك الحرب العالمية العظمى الجارية منذ عقود ثلاث في ساحل وبر الشام وعربيتها القديمة، لتوليد العالم الجديد وليس فقط النظام العالمي الجديد.

غداً، في العربية وساحل وبر الشام وقعت الحرب العالمية العظمى واشتد المخاض… ومن أوكرانيا رجع الصدى

 

موقع أجواء برس



 
عوده الي الاعلى

جميع الحقوق محفوظة لدى مال واعمال